حكم قراقوش …. عماد أبو غازي

حكم قراقوش …. عماد أبو غازي11136690_10152720132195919_7230147012514986958_n

حكم قراقوش
عماد أبو غازي
 نعود اليوم معا إلى القرن السادس الهجري، إلى زمن الدولة الأيوبية، وعلى وجه التحديد إلى عصر مؤسسها صلاح الدين يوسف بن أيوب، ورحلتنا اليوم للتعرف على واحد من أبرز معاوني السلطان صلاح الدين الأيوبي وأشهر رجال دولته، الأمير بهاء الدين قراقوش، الذي سام المصريين العذاب فانتقموا منه شر انتقام، مستخدمين أقدم أسلحتهم وأمضاها فعلا، سلاح النكتة والسخرية.
 لكن تعالوا معا أولا لنتعرف على أصل الأيوبيين، المؤسس الحقيقي للأسرة الأيوبية من وجهة نظر معظم المؤرخين هو يوسف بن أيوب المشهور بصلاح الدين الأيوبي، وكان جده ويسمى شاذي من أصل كردي حسب أرجح الروايات والآراء، وقد التحق ابنا شاذي وهما أيوب وشيركوه بخدمة نور الدين محمود أحد حكام دولة الأتابكه في حلب وهو ابن الاتابك عماد الدين زنكي الذي بدأ الجهود الحقيقية لمواجهة الخطر الصليبي في المنطقة، وعندما شب يوسف ابن أيوب لحق هو الآخر بخدمة نور الدين محمود، وشارك مع عمه شيركوه في التدخل سياسيا وعسكريا لحسم المنازعات وقمع الثورات في مصر في أواخر زمن الفاطميين بتكليف من نور الدين محمود الذي كان يسعى لحصار الصليبين وتطويقهم من الشمال والجنوب، ومن هنا بدأت علاقة صلاح الدين ـ وهذا لقبه وليس أسمه بمصر. جاء صلاح الدين إلى مصر في سنة 559 هجرية للمرة الأولى ثم عاد إليها ثانية سنة 562هـ وكان ضمن رجال جيش عمه شيركوه الذي أختاره الخليفة الفاطمي العاضد وزيرا له. فلما توفى شيركوه سنة 564 هـ فجأة، حل محله صلاح الدين في الوزارة وتلقب بلقب الملك الناصر وسيطر على كل أمور مصر، إلى أن تمكن من عزل الخليفة العاضد وهو في مرض موته في سنة 567هـ وأعاد مصر مرة أخرى ولاية تابعة للخلافة العباسية بعد أن استمرت لأكثر من قرنين من الزمان دولة مستقلة.
 وكانت طموحات صلاح الدين الشخصية كبيرة فأصطدم بمشروع نور الدين محمود لتوحيد مصر والشام لقتال الصليبيين، وكادت الحرب تقع بينهما لولا الوفاة المفاجأة لنور الدين محمود سنة 569 هـ، وبعد فترة وجيزة من وفاة نور الدين أعلن صلاح الدين الأيوبي استقلاله بمصر، ومن هنا يعتبر عام 569هـ البداية الحقيقية لتأسيس الدولة الأيوبية.
 وتحول صلاح الدين بعد ذلك إلى استكمال مشروعات نور الدين محمود في قتال الصليبين، وبعد وفاته انقسمت الدولة الأيوبية إلى مجموعة من الدول في مصر والشام والجزيرة واليمن التي كان صلاح الدين قد ضمها إلى ملكه ليلجأ إليها في حالة نجاح نور الدين محمود في إقصائه عن مصر.
 إن قصة قراقوش ترتبط بصلاح الدين الأيوبي وحكمه لمصر فقد نشأ بهاء الدين أبو سعيد قراقوش الأسدي في خدمة صلاح الدين، وكان أحد رجال دولته البارزين وأتباعه المخلصين. فكان ينوب عنه في بعض الأحيان في حكم مدينة القاهرة عندما يغيب عنها، وأنابه خلفاؤه من بعده، وظل في قمة السلطة حتى وفاته في غرة شهر رجب سنة 597 هجرية. وقد خاض بهاء الدين قراقوش مع صلاح الدين بعض معاركه كما ولاه حكم عكا بعد أن استردها من الصليبين، إلا إنها ضاعت من يدي قراقوش بسرعة ونجح الصليبيون في احتلالها مرة أخرى، بل إنهم أسروا قراقوش واضطر صلاح الدين إلى افتدائه بعشرة ألاف دينار.
 ويذكر التاريخ أن قراقوش هو الذي أشرف على بناء قلعة الجبل بالقاهرة وعلى بناء الأسوار الجديدة حول القاهرة وضواحيها وهو العمل الذي لم يقدر له الاكتمال في حياة سيده صلاح الدين، ومن العمائر التي ينسب إلى قراقوش الإشراف على بنائه كذلك قناطر الجيزة.
وتدلنا المصادر على أربعة أمراء على الأقل حملوا أسم قراقوش في أوائل العصر الأيوبي من بينهم رجلنا بهاء الدين أبو سعيد قراقوش الأسدي، وكلمة قراقوش تعني النسر الأسود باللغة التركية.
 ورغم ما ينسب إلى قراقوش من أعمال معمارية مهمة، إلا أن المصريين قد عرفوا قراقوش كحاكم ظالم، واشتهر عندهم بأحكامه الشاذة والغريبة، حتى صارت أحكامه مضربا للأمثال؛ فالعبارة الشهيرة “ولاحكم قراقوش” يرددها المصريون عادة كلما واجهوا حكما جائرا أو تصرفا يتسم بالعنت من كل صاحب سلطة.
وقد وصلتنا أخبار قراقوش وأحكامه الشاذة من خلال كتاب “الفاشوش في أحكام قراقوش” الذي ألفه الوزير الأسعد بن المهذب بن مينا أبي مليح مماتي الذي كان هو الآخر من رجال دولة صلاح الدين الأيوبي ومن وزرائه، وكان ابن مماتي مصريا من أسرة قبطية الأصل عريقة في العمل الإداري شغل كثير من أفرادها وظائف مهمة في عصر الدولة الفاطمية. وقد خدم الأسعد بن مماتي في الدواوين الفاطمية لعدة سنوات قبل أن يستولي صلاح الدين على مصر لحساب أستاذه نور الدين محمود ويعيدها للتبعية العباسية، فاستمر ابن مماتي في العمل مع صلاح الدين، وأصبح من رجاله المقربين.
 وقد ألف ابن مماتي كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش لكشف عيوب بهاء الدين قراقوش أمام سيده صلاح الدين الأيوبي بعد أن زادت مظالمه وضج الناس بالشكوى من أفعاله، وقد حدد ابن مماتي هدفه من تأليف الفاشوش في مقدمته حيث قال:
 “أنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، وقد أتلف الأمه، فالله يزيح عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، ولم في قلبه شي من الحنة، والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدي لمن صدق، فلا يقدر أحد على عظمة منزلته على أن يرد كلمته، ويشتط إشتياطة الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان، فصنعت هذا الكتاب لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين”.
 لكن هل استجاب صلاح الدين لوزيره ابن مماتي؟ لم يستجب صلاح الدين إلى رغبات المصريين ويبدو أن قراقوش كان الرجل المناسب الذي يحتاجه صلاح الدين لتأمين مصر أثناء غيابه عنها، فالتاريخ يؤكد أنه لم يعر كلام ابن مماتي التفاتا، بل أن ابن مماتي هو الذي انتهت حياته منفيا هاربا بعيدا عن وطنه مصر حيث عاش سنواته الأخيرة في حلب ومات فيها غريبا.
 ومن قصص قراقوش وأحكامه الغريبة التي أوردها ابن مماتي في كتابه حكاية الركبدار والقفاص، تقول الحكاية: “أتوه ذات مرة بغلام يعمل ركبدار عنده وقد قتل قتيلا، فقال اشنقوه، ثم قالوا له: إنه حدادك وينعل لك الفرس، فإن شنقته انقطعت منه، فنظر قراقوش قبالة بابه لرجل قفاص، وقال: مالنا لهذا القفاص حاجة، فلما أتوه به قال: اشنقوا القفاص وسيبوا الركبدار الحداد الذي ينعل لنا الفرس.”
 وقد تكون هذه الحكاية مختلقة أو بها شئ من المبالغة إلا أن المقصود بها إظهار حمق قراقوش وجور أحكامه. وفي نفس الوقت تهدف القصة إلى إظهار اهتمامه بشكل العدالة دون جوهرها، فما دام هناك قتيلا فلابد من القصاص من قاتل، ولما كان قراقوش يحتاج إلى القاتل لخدمته في إسطبلاته، فقد أعدم شخصا بريئا لا يحتاج إليه.
 وفي حكاية أخرى من حكايات قراقوش يسعى الأسعد ابن مماتي إلى كشف مدى سذاجة الرجل وخفة عقله، يقول ابن مماتي: “سابق قراقوش رجلا بفرس له فسبقه الرجل بفرسه، فحلف انه لا يعلفه ثلاثة أيام، فقال له السايس: يا مولاي يموت الفرس، فقال له: احلف لي انك إذا علفته يا هذا ألا تُعلمه (أي لا تُعلم الفرس) إني دريت بذلك.”
 لقد كان انتقام المصريين من قراقوش بالسخرية والاستهزاء به من خلال الطرائف التي حواها كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش والذي ظل المصريون يتداولونه جيلا بعد جيل. وإذا كانت هذه هى بعض حكايات قراقوش كما أوردها ابن مماتي، فهناك من مؤرخينا المعاصرين، من يرون في هذه القصص مبالغات كبيرة وخيالا شعبيا خصبا. ويرى هؤلاء أن المنافسة الوظيفية بين قراقوش وابن مماتي هى الدافع الحقيقي لقيام الأخير بتأليف كتاب الفاشوش والذي يعتبر المصدر الأساسي لهذه القصص والحكايات، كما يذهبون كذلك أن قراقوش كان حاكما صارما لكن الظروف التي كانت تمر بها البلاد أثناء الحروب الصليبية هي التي فرضت عليه هذه الصرامة، التي دفعت المصريين إلى كراهيته.
لكن هل يا ترى كان المصريون وحدهم هم الذين يكرهون قراقوش؟
 يروي المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي واقعة تولي حفيد صلاح الدين للملك وهو بعد طفل صغير سنة 595 هـ خلفا لأبيه العزيز عثمان، وكان الأب قد أوصى له بالملك من بعده على أن يكون مدبر أمره الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي. لكن الخلاف وقع بين أمراء الدولة الأيوبية فطعن عدة منهم في قراقوش بأنه مضطرب الرأي ضيق الفطن لا يصلح للأمر.
هذه هي صورة قراقوش الذي سخر منه المصريون فصار عبرة في التاريخ.

الرابط