الفرافرة – بوح الصحراء – مصالحة القمر
هكذا وجدت التشخيص بعد خمس سنين عجاف من تقرحات الروح والجسد ولا بديل عن الكورتيزون لإيقاف الزحف الذي بدأ من الفم وكما شخصه العلامة النفساني حسين عبد القادر أنه صوم عن الكلام وقطع للصلة بالآخرين من خانوا الروح وخذلوك.
تأرجحت الآمال بين أقوال حكماء وأطباء في بلاد الدنيا بين تشخيص للعرض دون اكتناه جوهر المرض وظللت متجلدا أمام تساؤلات الأصدقاء التاريخيين : أين وسامتك القديمة وما كل تلك السِمْنة؟
وحتى في الحارة الشعبية حيث ميلادي قابلتني نسوة الحارة بهمسات : ماشاء الله العز ظهر عليك.
ولم أكن قادرا على تعليق لافتة على صدري إنه الأثر الجانبي للكورتيزون الذي يحجز المياه والأملاح تحت الجلد ويحيل الوجه لما يسمى
وجه قمر مستدير كباذنجة تبدو فيه العينان كخرزتين سوداوين محاطتين بداترتين بيضاوين.
ولا سبيل للفكاك من الكورتيزون وآثاره الجانبية اللعينة من توجس وريبة وهلع نفساني مزيف وثقل في الحركة وهَم بالروح لا ينقضي,
كسل في الحركة مشاريع كتابة لا تتم أبدا واغماءات مزيفة.
فضاء السماء مفتوح والقمر في يومه الثالث عشر يقاوم عتامة غبار القاهرة …
حاولت تفادي القمر
لو نظرته مليا
سأقاسي أسبوعا كاملا من الأرق وهدة البدن
خشية من ضوء للقمر أشعره يأتي ملوثا .
أعطيت ظهري للقمر ونظرت في اتجاه آخر , العين تنشد براحها وتصطدم بأبراج أسمنتية تغطي على منظر كان مبهجا لصحراء الجيزة وسقارة وعشرة أهرامات وكان قبلهما النيل, عشرات الرماح الأسمنتية والخرسانية وقفت مابين الروح وبراحها.
ما أنا فيه أسماه بن سينا في قانونه عن الطب هَمٌ وانعقد بالقلب
ووصفه المتنبي ببساطة
عــلى قلــق كـأن الـريح تحـتي
أوجههـــا جنوبـــاً أو شــمالا
مشتت بين ما يستحقه اليوم من شاعرية وكتابة وفن
يحلق بعيدا في براح النفس
وبين واقع غارق في أوحال السياسة
ربما أشعر بالحاجة لنمو براعم الأجنحة فوق الكتفين الآن والتحليق بعيدا للبراح , خارج دائرة الهموم – استراحة قصيرة للروح والنفس.
فجرا قرأت عن آبار الماء الساخنة الرومانية في الفرافرة وتحبيذ نزولها مع اكتمال القمر بدرا, لتمام الأسطورة حيث تقوم الطبيعة بالتوحد مع السابح في الماء فيتبادلان الأخذ والعطاء تسحب المرض وتمنح الصحة والراحة .
من الممكن أن تكون للصحراء مزاجها المتقلب اذ يمكننا أن نظهر حبها وعطفها )
في بعض الأحيان ويمكنها كذلك أن تذيق محبيها طعم الجحيم, الا أنه في الصحرا يمكنك أن تختبر صبرك ومقدرتك على مواجهة كافة أنواع الصعاب , وهذنا كذلك تتذوق لذة الانتصار, انه في الصحراء حيث تشعر أن الهواء الذي تتنفسه يبدو نقيا وأن الماء أعذب مذاقا , وفي سكونها تكون أفكارك دائما نبيلة وقلبك حافل بالتسامح.
وعلى الرغم من تقدمي في السنفأنني لا زلت أعشق السفر في الصحراء وأتعشم ألا أحرم من هذه المتعة طالما بقيت على قيد الحياة.)
تسلل الي شيخ الأثاريين العلامة أحمد فخري في مقدمته للموسوعة النادرة الثرية عن الصحراوات المصرية البحرية والفرافرة.
تليفون قصير للإستعلام عن مواعيد المواصلات للفرافرة .. بعد ساعتين .. ما الذي أحتاجه للوصول للفرافرة؟ اختيارات مفتوحة .. ماذا أحتاج ؟
جهاز الكومبيوتر المحمول .. وصلة الانترنت .. أقرص مفضلاتي الموسيقية والكتب .. ملابس تكفي مدة غير محددة.
وقفت دقائق أمام حقيبتي المفتوحة والدولاب مشرع والملابس راكدة … وعلى الأرض الأقراص المنتقاة وحقيبة الكومبيوتر .. ثوان قليلة كانت كافية لإتخاذ أول قرار حاسم … تركت الحقيبة والملابس والأقراص والكومبوتر على حالها والتقطت محفظتي وكتاب العلامة أحمد فخري عن الصحراء المصرية وكتاب عالم صوفي وقلما وعدة أوراق وفتحت قلبي واتجهت لموقف الفرافرة.
الطريق للفرافرة حوالي 673 كيلو متر من القاهرة تقطعه السيارة جيدة التجهيز في خمس ساعات على طريق معبد آمن لم يكن كذلك كما أخبرني العلامة فخري في كتابه .
الطريق كان طريقا للقوافل والتجارة فوق الجمال أشبه بالمدق الترابي والرملي ويلتف حول مدينة السادس من أكتوبر فيما يعرف بطريق المناجم, ولكنه الآن صار معبدا وجيدا وبه عدة استراحات على الطريق لتقديم الوجبات السريعة والساخنة والمشروبات وأيضا محطات البنزين والسولار.
لم أتوقع أن تأخذ الرحلة كل هذا الوقت بالاوتوبيس العام , تسع ساعات, والفيديو في الاوتوبيس يعرض فيلما سخيفا لمحمد سعد بعد تركيب شريحة في ذراعه تحول بعدها لشخص آلي بلا قلب , كان الفيلم اسمه 8جيجا, وفي أحد المطبات ارتبك جهاز العرض وصار الصوت غير مواكبا للصورة المهتزة.
هل كان هذا نذيرا أم بشيرا أم مرآة لروحي التي تشيأت في المدينة الخرسانية وتحولت لكائن يقاس وتقاس حياته بالجيجا؟
هل فقدت قلبي كلما أقتربت من مفردات المدينة وغصت في أوحالها , أو تورطت أكثر في الآلات المستهلكة للوقت والبدن والروح ؟
انقطع ارسال الفيلم تمام واستبدله السائق بمجموعة أغان قديمة لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد المطلب ومحمد منير وعلي الحجار وأنغام.
لم أفقد اتزاني لكي أستعيده بل ظللت محايدا منتظرا, خشية أن أضع أملا ويخيب.
يتوقف الأتوبيس في البحرية الواحة الأكثر شهرة والأقرب للقاهرة , حوالي 300 كليو متر , بدت لي أشبه بالبازار السياحي العشوائي نسخة غير دقيقة ولا مرتبة من خان الخليلي مع تواجد عدد ملحوظ من الأجانب وسيارات الدفع الرباعي في الطرقات, لم يغرني مظهر المحلات المزدحمة بالنزول لدقائق ولكنني اكتشفت عدم تدخيني لأربع ساعات منذ خروجنا من القاهرة ولم تكن لدي الرغبة في التدخين, تحسست جيبي واطمأننت على وجود علبة وحيدة وبقيت مراقبا للحركة حول الأوتوبيس حتى تحركنا ثانية باتجاه الفرافرة المحطة القادمة.
………………
الواحة المفقودة أم الروح المفقودة التواقة للراحة في الفرافرة.
أربعة ساعات أخرى أو أكثر ولا توجد لافتات على الطريق تخبر عن الكيلومترات المتبقية , خط رفيع أسود متعرج ممتد الى مالا نهايه وحوله حياة كاملة قوامها الأحجار والرمال وبعض الطيور التي حوم ولا تهبط على أرض أبدا.
ظهرت بوابة مرسومة بألون تبدو بيئية بدون خرسانة وبدون أكاسيد مصنعة
( أهلا وسهلا بكم في واحة الفرافرة)
متحف بدر البيئي للفنون المحلية الفرفرونية يواجه المدرسة الابتدائية ويجاور مطعم يملكه ويديره أخوان قادمان من القاهرة أحدهما حاصل على الماجستير في التاريخ المصري القديم, آثرا أن يتركا المدينة ويجلسان متجاورين صامتين يشاهدان المحطات الإخبارية العالمية على التلفزيون الذي يكاد لا يسمع له صوت . وبجوارهما على الكراسي المصنوعة من الجريد والموائد أيضا عدة جرائد ومجلات لا تبدو أنها قديمة.
التفتا نحو بابتسامة هادئة مستنسخة لا هي عدائية ولا هي تساؤلية ربما كانت للترحيب ولكن أصفاد المعاملات في القاهرة تركت أثرا حذرا في رد الفعل على ابتسامات الآخرين التي من الطبيعي أن ترد الإبتسامة بأحسن منها وبالتحية ولكنني آثرت أن أكون قاهريا مدنيا وانحزت للحذر واكتفيت بتحويل عيني نحو متحف بدر منتظرا دليل الصحراء.
في الإنتظار لم تكن الشمس حارقة لكن ظلا ما كان يتحرك ولا سحاب في السماء ولا عطش.
اقترب مني الأخ الأكبر ابراهيم وقال : تفضل استرح عندنا قليلا لحين وصول بدر وهو يمد يده بكوب ماء بارد
غمغمت بكلمات شكر غير مفهومة أعقبتها بكلمة شكرا, وشربت الماء, كان طعمه خال من الكلور ومن المنقيات الكيميائية.
جلست على أول كرسي في أول المقهى – الكافتريا وتركني ابراهيم ليتابع مع أخيه الأخبار في التلفزيون, أعطيت لهما ظهري وللتلفزيون وانتظرت.
أول مايثير الإنتباه في الفرافرة هو خلو الجو من الضجيج وأبواق السيارات المزعجة, والشوارع تكاد تكون خالية من المارة وإن ظهر بشر لا يكونون فرادى بل في مجموعات ثلاثة أو أكثر يسيرون بهمة ونشاط ممشوقي القامة ولم أر أحدا حتى الآن ممتلئ الجسد .
اللغة الفرفارونية تتسم بالإيجاز الشديد وعدم استخدام اليدين في الشرح الى نادرا والعينان دوما هي الموصل الأول للمعني, لغة سهلة سلسة مزيج من الفصحى والعامية المصرية القاهرية وأحيانا الصعيدية وبعض المفردات البدوية القليلة جدا,
يتبادلون الحديث الذي يقترب من الهمس والمقتضب في أغلب الأحيان واستبداله بالتفرس الدقيق الودود بالعينين تذكرت صديقة رفضت الزواج من شاب عشقها حد الجنون ولم أر فيه عيبا ويناسبها تماما وقالت تربيت على أن أقرأ صدق أو كذب المتحدث من عينيه, العينان مرآة القلب والروح وهو لا ينظر في عيني عند التحدث , قلت لها ربما الخجل, قالت الخجل يعقد اللسان ولا يمنع العين من الكلام.
وصل بدر متهللا فاتحا أحضانه , اكتشفت في لغة بدر فنان البيئة الفطري ودليل الصحراء استبداله الكلمات البدوية بكلمات انجليزية أو ألمانية لتيسير التواصل مدعما بالإبتسام والعيون اللامعة التي تعكس الروح الشابة المتقدة والذكاء أيضا.
في الطريق لسيارة بدر سألت دليل الصحراء عن سبب تسميتها الفرافرة فقال حكمها فرعون اسمه فرفور هكذا قال الأجداد وما سمعناه من كبار الواحة.
عدت للتسمية الفرعونية فوجدت انها مقسمة الى قسمين فا را – فا را .. قد تكون با- رع – با رع … بيت رع وتحورت كما تحور اسم با- رع الى فرعون
اذن هي بيت الشمس بالنسبة لي.
كيف تكون الفرافرة بيت الشمس وسبب سفري لها هو القمر.؟
ربما كان حنين الشمس لعناق القمر والأرض والذي فصلت الريح بينهما هي السبب وربما كنت أنا الثالوث المكمل للإسطورة.
وكيف ألهث خلف أسطورة لم أتحقق من صحتها … ولكن كيف يتحقق فيّ مرض لم أتحقق من أسبابه العضوية؟
همٌ وانعقد بالقلب.
لافتة كبيرة مرحبا بكم في واحة الفرافرة .. ملونة بألوان طبيعية من الصحراء بلا أكاسيد وبرمال الصحراء.
قال لي الدليل ثانية الفرعون فرفور حكم الفرافرة واستوطنها وسماها أرض البقرة
حيث بقت لفترات طويلة مراع للأبقار والماشية وتدخل الأستاذ ابراهيم قائلا: هنا كان يمر فرع من النيل كبير ويصل راويا الأرض حتى سرت في ليبيا.
لم أكن قادرا على تصديق أو تكذيب ذلك الا بالرجوع لبحث جيولوجي عن الفرافرة قام به الجغرافي الكبير رشدي سعيد في الستينيات ولم أتبين أية حقائق عن النيل وقدومه الا هنا الا ما ذكره هيرودوت في تاريخه عن العالم وذكر النيل ومن بين ما ذكره مؤكدا كلام العديد من المؤرخين القلة منهم مصريون والغلبة لمستعربين من أن الفرافرة كانت هي خط الدفاع الأول للواحات ولمصر ضد هجمات البربر والليبيين وبالرغم من كثافتها السكانية القليلة على مر العصور فكانت حصنا منيعا منذ العصور الفرعونية التي أنشأت حاميات وبنت معابد وفي العصر الروماني واضطهاد المسيحية فر الكثير من المسيحيين بدينهم لواحة الفرافرة واستقروا بها وبنوا الصولمع والاديرة والقلايات وظلت موجودة حتى الآن في (حنس) قرية بأكملها ولكنها مهجورة وآثارها مازالت تدل على من كانوا بها.
………………
سألني بدر هل من خطة معينة ؟
قلت له : هل من مكان موهل للاستشفاء ؟
قال : الصحراء شفاء لكل داء.
قلت : الرمال القاسية ولن أقوى على حرارة الشمس ولا على العطش
لم يسخر بل أجاب بهدوء صحراء الفرافرة ليست كأي صحراء هي واحة بها النخيل والأشجار والآبار والعيون والجنة بعينها الصحراء جنة مر الفرع الثالث والعشرين للنيل من هنا ووصل الي سرت في ليبيا.
ركبنا السيارة رباعية الدفع وقال: أقصر الطرق للصحراء التي أحبها لجنتي باختراق بحر الرمال الكبير ….
تجهيز السيارة
لا بد للضارب في الصحراء بالسيارة أن يقوم بتجهزيات هي ذاتها من كان يقوم به من مئات السنين راكب الجمال.
كمية كافية من المياه تكفي المدة التي ينوي البقاء فيها بالصحراء ولكن مضاعفة مرتين.
كمية كبيرة من الدقيق.
خضروات متنوعة وبعض الفواكه , عدة الشاي والسكر والنعناع والعسل النحل.
وتزيد عليها كمية أحتياطية من السولار واطارات احتياطية.
قبل كل ذلك التوجه لمتخصص في السيارات لعمل كشف دقيق والتأكد من سلامة الموتور والإطارات.
كانت السيارة ضخمة ذات دفع رباعي وضح لي بدر أن هناك أنواع قليلة من سيارات الدفع الرباعي هي القادرة على السير في الصحراء بطبيعة أرضها المتنوعة بين الرمال والحصى وربما أيضا الحاجة لصعود أو هبوط تلال عالية صخرية تشبه الجبال في طبيعتها .
تحركنا عصرا باتجاه الصحراء البيضاء ولكن علينا أولا المرور بالنبع السحري.
مع تحرك السيارة وارتطام الهواء النقي للصحراء بوجهي واحساسي ببداية التخفف من أعباء المدينة والخرسانة والضجيج استسلمت لإغفاءة وموجات الرمال تحيط السيارة من كل جانب ولا إشارة لظل من قريب أو بعيد .
صحوت على اهتزازالسيارة نتيجة ايقاف المحرك وتلفتت حولي فوجدت كتلة خضراء من النخيل والأشجار في وسط بحر الرمال وخط صغير من المياه ينساب بينها الى حوض بدائي.
العديد من الطيور كانت تتحوم حول المكان ميز بدر من بينها صوت وقال : اسمع طير الوروار.
ضحكت لذكر فيروز في قلب الصحراء وكيف أسمعها.
أشار بيده لطائ أخضر ملون العنق يحط على فرع جاف بجوارنا.
كثير من مفردات فيروز مفهومة جدا حتى بالتفسير الشخصي للهجة عربية محببة غير مستعملة الا في المسرحيات والأغاني وعدد كبير أيضا من المفردات غير مفهوم كان منها طير الوروار الذي حط بجوار ينشد ويغرد و استعدت به أغنية الرحبانية وفيروز دخلك يا طير الوروار.
قال الدليل سأجمع الأخشاب الى أن تأخذ حمامك.
توجست أن أخلع ملابسي أمامه حتى لا يرى القروح وآثارها المرقشة لجسدي كله ولكنه اختفى خلف الأشجار خلعت ملا بسي مسرعا وغطست في الحوض فاذا بالماء يندفع بقوة اكبر.
أطل بوجهه مبتسما: مياه النبع السحري – وهذا اسمه – تزداد مع نزول الناس الى الحوض
هززت رأسي متفهما وغير مصدق ولكنه خلع ملابسه وقفز في الحوض في ركن من النبع ومر بنا جمع من عاشقي الصحراء المصريين وغيرهم وغطسوا وكلما غطس شخس ازداد تدفق النبع بمعيار الغاطسين حتى فاضت الماء وكل في ركنه يمسد جسده بالرمال ويترك جسده لماء النبع السحري.
عرفت من دردشات المستحمين والغاطسين أن الماء في هذا النبع يفيض بقدر حاجة الشاربين أو الغاطسين وأنه كان في طريق تجارة الجمال قديما وكان يفيض ليكفي أي عدد حتى ذكر أحدهم أنه شاهد قافلة من مئة جمل ورعاتها يشربون منه وأشار لفضاء الصحراء البعيدة ولأجمات جافة بعيدة وقال أن النبع أفاض حتي كون بحيرة هناك ولكن بعد استخدام مواتير الرفع التي تعمل بالسولار في الأراضي التي استصلحها المستثمرين القادمين من القاهرة أثرت بالسلب على النبع السحري وعلى آبار كثيرة جفت , وتعجب من أن المستثمرين تخصصوا في زراعة البطيخ ووظفوا فلاحين من الدلتا ولم يتعاملوا مع أهل الواحة الذين لم يروا حتى شكل البطيخ وأردف ربما أيضا كانوا يصدرونه خارج مصر.
………………….
أشار الدليل بيده لقمة جبل وقال سننام بجوار تمثال مريم .. بدت منحوتات الريح في الجبال والكتل الصخرية وجوها لأشخاص نعرفهم وأجساد لزعماء ولحيوانات ودواجن .. صخرة الديك .. صخرة مريم صخرة ناصر صخرة شيخ البلد .. الدبابة .. وهكذا .
الصحراء البضاء تقع في الطريق ما بين الواحات البحرية و الفرافرة وتقترب من الفرافرة بحوالي 35 خيلومترا وتمتاز بتكويناتها الطباشيرية والجيرية والرملية التي تعاملت معها الريح وعوامل التعرية فحولتها لمدينة كبيرة من الأشخاص والشكال المتنوعة القادمة من التاريخ وحتى الأشكال المنتمية للخيال العلمي.
قال بدر : ترجل وانزل بين الصخور أجدادي يقولون أن من به مس من الجن أو عارض من السحر أو أي مرض غامض اذا سار بين صخور الصحراء البيضاء يبرأ ويشفى من علل القلب والنفس.
الهواء داخل الصحراء البيض نقي لدرجة كبيرة بل والتنفس ذاته يخترق الرئتين ويغوص في الروح النفس وكأنها غرفة عمليات كبيرة بدون تخدير.
مالت الشمس للغروب قليلا فانعكست على الصخور وكونت الأشعة والضوء مع الظلال أشكالا لبحر حقيقي بأمواجه العتية.
حتى الظل هنا ليس أسودا ولا حتى رماديا الظل هنا أزرق اللون سماوي.
……
اتجهت نحو السيارة فقال لي : جمع ما تحتاجه وسنرتقي الجبل على الأقدام.
سنبيت الليلة في كهف مريم .
بدت الصخرة المنتصبة أمامنا على شكل السيدة العذراء مريم وهي تحتضن وليدها وتميل عليه برأسها بعطف وحنان أمام ساحة جبسية طباشيرية كبيرة.
نظرت للجبل الماثل خلف التمثال بتجاويفه المتنوعة بارتفاعه الكبير فتعجبت من الفكرة و شككت في قدرتي على الارتقاء ولو لخطوة واحدة ولكنه حمل أشياءه وتركني وحيدا مع الغروب والسيارة وحقيبة تركها لي .
ارتقى حافة الجبل مسرعا في دقائق وأشار بيده وهو على حافة التجويف الصخري : اخلع حذاءك واصعد
بدأت الخطو مترددا وصعدت ببطء شديد فاكتشفت ارتقاء متزايدا وتيقنت أن عوائق صعودي للجبل من داخلي وأنه لا يختلف عن أي سلم وما هي أسباب التوجس والريبة ؟
خلعت الخوف مع الحذاء وارتقيت .. متصاعدا بلا احساس بالتعب بل اكتشفت أن الإرتقاء يكسبني قوة كلما صعدت لأعلى .
وصلت الى كهف نصفه مغطى ونصفه مكشوف للسماء.
الكهف تجويف في الصخر بفعل الريح ومغطى برمال ناعمة جدا حملتها الريح عبر ملايين السنين فصنعت ساحة واسعة مريحة .
على الحوائط وفي الأركان النظيفة بقايا شموع منتهية
سألته : هل أحضرت شمعا
نظر للقمر وقال : الليلة بدر ولا نحتاج لضوء آخر
وقال : هنا منذ سنوات قريبة طلبت مني سيدة أوروبية كنت قد قمت برحلة سياحية معها في الصحراء وحيدين .. حتى وصلنا هنا وحملت كيس نومها وكيس طعامها ووعاء شربها و سألتي لأي مدة ستطيع أن تتركني هنا وحيدة
قلت : بقدر ما تتحملين .
نظرت لأشيائها وقالت : سبع ليال .
استكانت في الكهف وتحركت بالسيارة نحو الفرافرة وعندما عدت لها فجر اليوم الثامن وجدتها متأهبة وقد حزمت أمتعتها وقالت : كنت أحمم روحي .. وحيدة وذلك أفضل .
ربما أردف أنها تأتي في نفس الموعد من كل عام وتقضي سبع ليال قمرية منفردة بنفسها وتعود كما جاءت حتى اختصرت رحلتها ولا تدخل الواحة أو أي مكان آخر , تتصل بي فالتقطها من على الطريق بعد تجهيز السيارة وأتركها سبع ليال قمرية .
انسحبت الشمس بدأ الجوع الشديد يقرصني والهواء المنعش يزيده وحل ارهاق الرحلة تسع ساعات في الطريق وها أنا أسير بين الصخور وأصعد جبلا وأنام في كهف وأين كنت الليلة الفائتة بل والليالي التي تشبهها ؟
هل هو نداء الطبيعة والصحراء ؟
أم هي مرحلة راحة مؤقتة ؟
على ضوء البدر بدأنا في اعداد خضروات الطعام وبدأت الإحساس بالمكان أكثر وشعرت بكائنات حولنا غير مرئية وهمسات وهسهسات خافتة.
الليل مرتع خصب لتسلل أفكار الشباح والعفاريت والجن .
استلمت طبقي من الخضروات فظهرت كتلة بيضاء وعينان لا معتان حمراوان اقتربت مني أكثر همس الدليل خافتا :هذا هو الفنك .. ثعلب الصحراء المصري .. اطعمه..
توقفت للحظة : فنك و ثعلب وأطعمه .. كيف .. ؟
أشار بيده لطبقه وأمسك قطعة خضار و وضعها على الأرض أمامه التقطها الثعلب بسرعة ومضغها وابتلعها وتحرك بهدوء نحوي .
امسكت قطعة من الطبق وقبل أن ألقيها على الأرض اقترب الثعلب الأبيض الصغير مني وبهدوء شديد اقترب بفمه والتقطها من يدي وعاد مسرعا من حيث جاء .. ارتفعت من خارج الكهف أصوات رفيعة وعلت الهسهسات.
ضحك الدليل: الفنك أعجبه الأكل .. ينادي الآن على باقي الأسرة .
لحظات وغبت في النوم والقمر بدرا في السماء والرمال تحت جسدي ناعمة صلبة في آن.
صحوت على هسيس حولي وجدت الفنك الأبيض ومعه باقي أسرته يدورون حولي في دائرة كحراس ليليين وصغارهم يأكلون ماتبقى من الخضروات .
والدليل في ركن من الكهف يصلي الفجر على الصعيد الطاهر.
التفت لي وقال : تعال ننزل البئر الروماني .
التففنا حول الكهف فظهرت الصحراء كبحر كبير وكأنه الماء بموجه ومازال القمر في السماء ولكنه يميل نحو الغروب .
تساءلت : كيف حرمت نفسي من براح العين والروح وهذا النقاء الصافي لمدة طويلة .
مد الدليل يده في شق يعلو ظهر الكهف وأخرج شيئا مضغه ثم اقترب مني وقال هذا عسل جبلي .. مد يدك .
أخرجت قطعة شمعية ينز منها العسل وقضمتها وسرنا الى النبع الروماني.
الابار الرومانية متانثرة في الصحراء بعضها جف والكثير منها مازال يتدفق بقوة وبدرجة حرارة لا تتغير طوال السنة 24 درجة مئوية .
كان النبع الروماني كماسورة ضخمة جدا يفيض الى حوض ضيق أمامه وتنمو الأعشاب الصحراوية والأشجار حوله .
والى مقربة منه كتلة طينينة مرتفعة تتناثر حولها قطع كثيرة من شقف الزلع والآنية والطباق الفخارية .
قال لي أن الرومان استوطنوا كل هذه السحراء وأسموها سلة غلال العالم وهنا كانوا يخزنون القمح والشعير وزيت الزيتون .
بنات القمر يطيرون بخفة
حول النبع
تكبلهم أسطورة ميلادهم
ونذير الموت ينتظهرم
لقدر محتوم إن نزلوا الأرض
ولكن الرجل اذا نزل النبع تفيض منه رائحة الخصب فتهبطن كالفراشات
تتراقصن على خيوط أشعة القمر وتتغذين على الهالة الضوئية المنعكسة من القمر من جسد الرجل المستحم في ماء النبع شريطة أن يكون القمر بدرا ومازال في السماء .
بعد خروجي من النبع سألني: هل سمعت غناء بنات القمر ؟
قلت : ربما .
……….
على الكراسي الجريد تناولت طعام الإفطار .. باذنجان مقلي وسلطة خضراء وجبن .
جلس بالقرب مني أحد الرجال , مهندم جدا وأيق , لا يرتدي بدلة , قميص وبنطلون وألقى الصباح وطلب افطاره من ابراهيم .
قال ان اسمه عصام قادم من دلتا مصر ليكون موجها للغة الإنجليزية ولما تابع أحداث الثورة أحس بغليان في رأسه ولم يدر الا وهو يشتري كمية كبيرة من البلح وتوجه لميدان التحرير منضما للجموع .
سألني ابراهيم : شاي ؟ قهوة ؟ حاجة ساقعة ؟
اقترب الرجل وقال لي : جرب الشاي بورق شجر الليمون .
هززت رأسي موافقا .
جاء ابراهيم بكوبين من الشاي ومد يده فوقنا وانتزع وريقات اسقطها في كوبي الشاي .
هكذا ؟
تطلب شايا بورق الليمون فيمد الرجل يده يقتطف الوريقات
من فوق رأسك
وأنت لا تدري
أن الفراشات وبنات القمر كن تتغذين من الضوء الصاعد من رأسك
وأن شجرة الليمون لم تكن ذابلة بل كانت دوما وارفة وتظلك .
باغتني الرجل المهندم : شاركت في الثورة ؟
هززت رأسي مجيبا وأردفت : على قد صحتي .
القصر
مدينة القصر
بيوت وقصور مبنية من الطوب اللبن , لها بوابة ضخمة على مقدمتها مسجد وفي نهايتها مسجد آخر .. كل المباني مادتها الأساسية الطين والرمل والأخشاب .
الشوارع ضيقة لحد ما ومسقوفة بجذوع النخيل و فروع الأشجار الحوائط مزينة بنقوش وخطوط ورسومات المتبقي منها مازال زاهيا يسر العين .
أغلب الرسوم هي توثيق لرحلات حج قام بها صاحب البيت وغالبا لا يكون منفردا بل يصاحبه أهل بيته , زوجته وبناته وابنه والجميع منقوشة أسماؤهم بزهو على الحائط متجاورة مع رسمة السفينة والجمل وآيات الحج في القرآن وربما أجاد الخطاط فأضاف بيتين من الشعر .
القرية متكاملة البناء .
بها مدرسة ومعصرة زيتون وطاحونة وفرن ومسجدين وأيضا محكمة وعبى إحدى البوابات تنتصب المشنقة .
مدينة القصر هجرها سكانها سعيا خلف المنازل الخرسانية المتناثرة بعشوائية حولها .
تتنوع أصول المباني التي كانت وأصبحت قرية القصر , فأحد البيوت يرتكز على عمود كان لمعبد آمون وتظهر عليه بوضوح نقوش الشمس وبعض الكتابات الفرعونية والبعض الآخر مكتوب عليه بقايا كلمات تتضح فيه كلمة الأيوبي و تتشعب المدينة – القرية لحارت ضيقة تفيض الى أخرى وتتوزع الى أخرى .
ربما كانت بها أحداث بعض من قصص ألف ليلة وليلة .. تكاد تشعر بانفاس الناس ونشاطاتهم وهدوئهم .
كل بيت له عتبة .
والعتبة غير ما نعرفها في المدينة .
العتبة في القاهرة هي السلمة الأولى أمام البيت , لذا قيل عتبة جديدة , أما الأعتاب هنا فهي موضوعة مباشرة فوق الباب , مؤرخ عليها بالنقش فوق الخشب أو النخيل اسم صاحب البيت وتاريخ بنائه له ولا ينس الناقش أيضا تزيينه بابيات من الشعر وآيات من القرآن .
دخلنا مسجد فاضل وطلبنا صعود المئذنة , لم يعارض المؤذن الشاب واشار لزير ماء مجاور للسلم : اشرب قبل الصعود .
المئذنة كما المسجد كباقي أبنية الفرية مبنية بالطين والأخشاب وتتصاعد حلزونية الى السماء حوالي عشرين مترا لأعلى .
ترى من فوقها المدينة القديمة الطينية التي يحد مسجد فاضل نهايتها , وتجاورها الى اليسار المقابر القديمة للبلد ذات المباني القببية الطينية في حضن الصحراء وفي الخلف خط الأسفلت ثعبانا ملتويا وأمامه البنزينة وتتناثر البيوت الجديدة الخرسانية بكثرة .
……………..
على مفترق الطرق مابين الداخلة والفرافرة أوقفني الدليل وقال هذا هو تمثال جمال عبد الناصر , كانت الطبيعة قد نحتت في الصخور وجه الزعيم الذي تبنى مشروع تخضير الصحراء ومد فرع من النيل لها وأسماها محافظة الوادي الجديد وتمتد من حدود محافظة الجيزة وتقترب من حدود ليبيا تأملت أحجار الوجه لم يكن باديا بوضوح كباقي منحوتات الطبيعة الواضحة , قلت له يشبهه بعض الشيئ ولكنه ليس كعبد الناصر .
قال أن عمال الطرق كانوا يحتاجون لأحجار عند تعبيد الطريق السفلت فوضعوا بعض اصابع الديناميت في أجزاء من التمثال وفجروها واستخدموا الفتات في تعبيد الطريق ولكن الشبه مازال قائما بين التمثال النصفي لوجه عبد الناصر وبين بقاياه الحجرية على مفترق الطرق ما بين الفرافرة والخارجة .
……….
لم تكن لي أشياء لأجمعها قبل الرحيل
تركني بدر قليلا لأرتب أشيائي قبل موعد التحرك للقاهرة , ربما وجدت وأنا جالس على الدكة الخشبية في حوش بيته الذي يفصل جزء الزوار عن باقي سكان البيت , زوجته وأبنائه , ربما وجدت أن شتات نفسي قد بدأ في الإلتئام وربما وجدت أثرا في التنفس وفي وضوح رؤية العين لترى بهدوء بعيد عن غبش الضباب في المدينة وربما أحسست أن أذني عادتا سيرتها الأولى تسمع مافي الكون من تناغم بعيدا عن الضوضاء وأبواق السيارات والصريخ وصوت المترو ودق البائع على أنبوبة البوتاجاز وكلاكس التاكسي لإعلام الواقف أنه مستعد للخدمة وزحام جمهور مباريات كرة القدم وتشنج الخسارة أو تسديد هدف وصراعات العمل المريرة وفراغ الجيب من نقود تكفي لآخر الشهر وربما ايضا كنت ممتنا لديل الصحراء بدر ولعائلته التي استضافتني ووجدت مكانا هادئا ثابتا على الأرض يضبط اعتزاز الروح وينقي تشوشها من طوفان المدينة ودواماتها .
في الطريق لأوتوبيس العودة أصر بدر على الذهاب لبحيرة المفيض وهناك كانت طيور الوروار كثيرة بشكل لم يره بدر – كما قال .
على الطريق مالت الشمس للمغيب وفي الجهة المقابلة ظهر القمر كرغيف خبز كبير منقوص منه قطعة دائرية صغيرة .
تأملت القمر بعينين مفتوحتين وودت لو كانت لدي القدرة على ابتلاعه كاملا واحتوائه .
هل هذا هو القمر الذي عرفته طوالا سنين عمري؟
هل هو ماكنت أخشى التطلع له ؟
أم أن الآخر قمر مزيف باهت بيني وبينه حواجز هائلة من الضباب والأتربة العالقة بالروح والنفس؟
هنا صار القمر أكبر
وصار صديقا
وانسانيا كعين محبة تغمرني .
اقتربنا من الموقف ودخلت في طوفان المتحركين نحو الأوتوبيس وبدأ الصراخ والنداءات و التحذيرات وأبواق الميكروباسات يزداد
كمزيج تدريجي يؤهلني للعودة للمدينة
ولكنني ربما
سأحلق بروحي على شرفات من أحبهم
كفراشة أو ضوء خافت سريع
وسأنقر الزجاج لمرة واحدة بجناحي
أو كضوء قمر غزل خيوطه
لبنات قمر طائرات حائمات
وربما
كانت ندوب على جدار الروح
بدأت في الإلتئام .
محمد حسان